في عالم الأدب، هناك من يكتب ليؤرّخ، وهناك من يكتب ليُربك هذا التاريخ. نجيب محفوظ ينتمي إلى الصنف الثاني. هو الكاتب الذي لم يجعل من الرواية مجرد مرآة للواقع، بل جعل الواقع نفسه يتكلم من خلال الرواية. حوّل تفاصيل الحياة اليومية إلى مجاز فلسفي، ورفع أزقة القاهرة إلى مستوى الكون الأخلاقي والوجودي.
❖ لماذا نجيب محفوظ؟
لأنه لا يكتفي بوصف الحياة، بل يعريها. لا يخبرك بما يجب أن تفكر فيه، بل يضعك وسط التناقضات لتختبرها بنفسك. الأب عنده ليس فقط رمزًا للسلطة، بل عبءُ الحب والهيمنة. المرأة ليست مجرد شخصية، بل صراع بين الشهوة والحرية. الناس في رواياته يتحركون بأحلام صغيرة، لكن هذه الأحلام تكشف عمقًا هائلًا في النفس البشرية.
نجيب محفوظ لا يسأل السؤال الفلسفي من أعلى، بل يطرحه بلغة الناس، على لسان سائق تاكسي أو صاحب قهوة أو لصّ نادم. هو الذي علّمنا أن الحارة قد تكون الكون، وأن الإنسان البسيط لا يقل تعقيدًا عن الملوك.
❖ كتب نجيب محفوظ التي لا تُنسى
- الثلاثية (بين القصرين – قصر الشوق – السكرية): رواية حياة كاملة، تأخذك من القهر إلى الثورة، ومن الحب إلى الغربة داخل البيت الواحد.
- أولاد حارتنا: رواية كل من شعر أن الدنيا ظلمته، وراح يبحث عن معنى أكبر. حكاية الأنبياء بصوت المهمشين.
- زقاق المدق: تفاصيل حيّ فقير، لكن في داخله قصص عن الكبرياء، والرغبة، والانكسار.
- اللص والكلاب: هل الثأر يُشفي؟ رواية عن الخيانة والألم عندما يكون العدالة حلمًا بعيدًا.
- الشحاذ: رواية من الداخل. عن الضياع الداخلي حين تبدو الحياة كلها بلا صوت، وبلا إشارة.
❖ اقتباسات تُشبه القلب حين يتكلم
• كنت أظن أنني حين أكبر سأفهم كل شيء… لكنني كبرت، ولم أفهم شيئًا.
• من الحكمة أن تواجه الحياة كما هي، لا كما تتمناها.
نحن نكره الماضي لأنه لا يعود، ونخاف المستقبل لأنه لا يُؤتى إلا بثمن.
• كل حلم يموت يترك وراءه ندبة لا تُرى، لكنها تؤلم العمر كله.
• الناس لا يتغيرون، فقط يسكتون أكثر.
• لا أحد يفلت من الحب، إما أن يحب، أو يُحب، أو يتحاشى الحب لأنه يخافه.
• الوحدة لا تعني غياب الناس، بل حضورهم الباهت.
❖ ما الذي يجعل نجيب محفوظ عالميًا رغم محليته؟
لأنه كتب عن وطنه، فصار صوتًا للعالم. لم يحاول أن يُعجب أحدًا، لكنه حين كتب من قلب القاهرة، وصل إلى قلب كل إنسان. عنده تتكلم الأرصفة، وتبكي الجدران، وتهمس العيون بأسرار لم تُقل. كان وفيًّا للغته، ولم يتنازل عن عاميته، ومع ذلك تُرجمت رواياته إلى أكثر من ثلاثين لغة، ووصلت إلى قارئ في طوكيو، ومكتبة في بوينس آيرس، وغرفة شاب يتعلّم العربية في باريس.
❖ نوبل التي لم تغيّره… بل غيّرتنا نحن
حين نال نجيب محفوظ جائزة نوبل للآداب عام 1988، لم تكن جائزته وحده، بل جائزة للرواية العربية، للغة التي ظنّ البعض أنها لا تليق بالسرد العالمي. لم يصرخ فرحًا، بل بقي كما هو، يكتب بهدوئه، يبتسم بتواضعه، ويقول: “أنا لست أكثر من كاتب يحب الحارة والناس والحكايات.”
❖ لماذا نعود إليه رغم كل الكآبة التي يمررها إلينا؟
لأنه يُشبهنا حين لا نجد ما نقوله. حين نُخذل ولا نعرف مَن نلوم. حين نحب ولا نجد كلماتٍ نُعبّر بها. نجيب محفوظ يكتب عن الإنسان حين يصبح عاجزًا عن الهرب من نفسه. هو لا يواسيك، لكنه يجعلك تفهم حزنك. هو لا يعدك بالضوء، لكنه يُريك من أين بدأ الظلام. ومعه، حتى الألم يبدو أصدق.